بقلم / محمد الباز- بجريدة الفجر
ليس من السهل أن يوضح أحد موقفه في مصر، فإذا وقعت لك مشكلة أو كنت معارضا أو ناقدا لأحد، وحاولت أن تشرح وجهة نظرك فمن المستحيل أن يسمعك الآخرون، إنهم يتحدثون بما يرونه صحيحاً، أما أنت فلتذهب إلي الجحيم.
شيء من هذا حدث مع المعارض المصري جمال أسعد، الذي تم تعيينه في مجلس الشعب، فإذا بنيران جهنم تفتح عليه من كل باب، قالوا إنه خصم وعدو للبابا شنودة، وقالوا إنه يعمل ضد مصالح الأقباط، وقالوا إنه يخدم أهداف ومصالح الجماعات الإسلامية وعلي رأسها الإخوان المسلمون.
- أرسلت للبابا رسالة قلت له فيها:أنا ابنك وأنت أبي الروحي.. ومستعد أن أعتذر عما يمكن أن يفهمه البابا إساءة في حقه.جاء إلينا ليوضح موقفه ويجدد مبادرة الصلح
جمال أسعد: لست خصما للبابا.. لكني سياسي لي وجهات نظري الخاصة
- لم أخطئ في حق البابا أبداً...وهناك ممن يحيطون به يهمهم ألا أقترب من الكنيسة لأسباب شخصية يعرفونها جيداً
نشرت مذكراته الأسبوع الماضي لنفهم سر خلافه مع البابا، وعلي هامش ما خلفه النشر من آثار وردود فعل، جاءنا جمال أسعد ليتحدث، ويوضح موقفه من البابا شنودة ...ويجدد مبادرة الصلح معه، بل يبدي استعداده للاعتذار للبابا، إذا كان لديه أي شعور بأنه أساء إليه وهو ما لا يمكن أن يحدث أبدا.
يقول جمال أسعد:"أنا لست في عداء مع البابا، وعلاقتي به كانت جيدة جدا قبل عشرين عاما، وهو يعرف إخلاصي للكنيسة والوطن، لكن يبدو أن هناك ممن يحيطون بقداسة البابا لا يريدون أن تكون علاقتي جيدة لا بالبابا ولا بالكنيسة، وذلك كله لأسباب شخصية وأنا أعرفهم جيدا.
ومالا يفهمه هؤلاء أنني لا أتحدث في الدين ولا في العقيدة، أنا في النهاية رجل سياسي، وعندما تتحدث الكنيسة في أمور السياسة أجدني أعبر عن وجهة نظري، أما كون الأقباط يريدون أن أكون لسانهم ومنحازا لفكرهم وتصورهم وألغي نفسي تماما، فهذا ليس طبيعيا بالمرة.
إنني أعرف أن من يحبون جمال أسعد من المسلمين يفعلون ذلك لأني سياسي متمسك بمسيحيته، وبعد أن تم تعييني في المجلس وجدت أن هناك أعباء كثيرة علي أن أقوم بها بوصفي نائباً عن الشعب كله وليس عن الأقباط فقط..فأنا نائب مصري أولا وأخيرا".
قلنا له: لقد بدأت عهدك في مجلس الشعب بمبادرة صلح مع البابا شنودة، وحمد لك البعض ذلك.
قال:أنا كنت أتحدث مع الدكتور مصطفي الفقي وهو صديقي وعرفت أنه في طريقه إلي البابا، وقلت له أن يحمل رسالة مني إلي قداسته قلت له فيها :"أنا ابنك وأنت أبي الروحي وأنا ابن الكنيسة وإخلاصي لها...وإذا كان هناك من أوصل لك أني أساءت إليك فإنني لا يمكنني أن أفعل ذلك مطلقا.... وأنا من الآن ملك للناس جميعا".
استوقفناه بأن هناك حالة من الغضب القبطي العام لأنك أعلنت أنك نائب عن الجميع وأنك لست نائبا عن الأقباط؟
فرد سريعا بسؤال:وهل عندما عين رئيس الجمهورية السبعة المسيحيين فعل ذلك حتي يكونوا نوابا للمسيحيين؟
ويجيب جمال أسعد:لا طبعا لأن الرئيس يعرف دستوريا أن النائب يمثل الشعب المصري، ولكن لسد ثغرة عدم وجود من يدينون بالمسيحية قام بتعيين الأقباط ...ولكن ليمثلوا الشعب كله، وهناك تصور خاطئ بأن الذين يدينون بالمسيحية يعبرون عن المسيحيين، والذين يدينون بالإسلام يعبرون عن المسلمين، وهو تصور يكرس للطائفية كما في لبنان تماما....فعلي هذا الأساس يمكن أن نجد من يقول إن يوسف بطرس غالي وزير مسيحي فهو يعبر عن المسيحيين.. هو ما ليس صحيحا بالمرة.
عاد أسعد مرة أخري إلي علاقته بالبابا، قال:وفي هذا السياق أحب أن أذكر أنني عندما دخلت مجلس الشعب في المرة الأولي عام 1987 ضمن تحالف (حزب العمل - الإخوان - الأحرار)، كان البابا سعيدا بذلك، لأني دخلت المجلس علي أرضية المواطنة وليس لأني مسيحي، وقال لي إن ما فعلته أمر عظيم جدا، وظلت العلاقة ممتدة بيننا لسنوات طويلة....ولم يؤثر فيها ما كان يقوله بعض أقباط المهجر من أني أدافع عن الإخوان راغبا من وراء كلامه هذا أن يشوه صورتي.
علي ذكر أقباط المهجر سألناه عن دوافع وجهة نظره فيما يقومون به، ولماذا يتصدي لهم بهذا العنف، وهو التصدي الذي يواجهونه بعنف أشد؟
قال:مشكة أقباط المهجر أنهم يعرفون أني أعرف مخططهم جيدا، فهم ليسوا كما يتصور الأقباط يدافعون عن مصالح الأقباط، لكن لهم مشروعاً أكبر من ذلك، إنهم يمهدون للتدخل الأجنبي في مصر سواء من خلال الأمم المتحدة أو من خلال القوي الغربية، ولأجل ذلك فإنهم يركزون علي ثلاثة أشياء.
أولاً: أن يقولوا إن الأقباط في مصر أقلية، ثم بعد ذلك يثبتون أن هذه الأقلية تتعرض للاضطهاد، وفي المرحلة الثالثة يقولون إن هذا الإضطهاد منظم ويتم من خلال رعاية مباشرة من النظام المصري...وأعتقد أن حادث العمرانية الأخير سيكون مهما لهم، لأنه أول حادث تكون فيه مواجهة بين الأقباط والأمن مباشرة.
أنا أعرف مخططهم هذا وأكشفه، وأمثل نقطة ضعف شديدة لهم لأني مسيحي وأقول هذا الكلام، وهو ما يفسد كل ما يقومون به، ولذلك يكون طبيعيا هجومهم علي، لكن ما لا يعرفونه أني أدخل عهدا جيدا، أخدم فيه الناس وأحافظ علي مصر وأخلص للكنيسة.
هناك قضية أخري تتعلق بتعيين جمال أسعد، فهناك من قال إن تعيينه جاء في إطار الصراع بين الدولة والكنيسة، وهو ما رفضه جمال أسعد، فهو سياسي وابن الكنيسة ولا يمكن أن يكون طرفا في صراع من أي نوع.
حكي لنا جمال أسعد كيف صدر قرار تعيينه، قال:"لم يكن في ذهني أبدا تعييني في مجلس الشعب، ولم تكن عندي أي فكرة عن قرار العشرة المعينين، وعرفت بالخبر من اتصال تليفوني تلقيته من كاهن بالقوصية يخبرني فيه بأنه تم تعييني في المجلس.
قلت له لم يحدث وهدأت أعصابه فقد كان منفعلا، لكني وجدت مكالمات عديدة، وقل ت لأحد المتصلين:لازم حد يتصل بي من رئاسة الجمهورية أولا، لكن جاءتني اتصالات من أمن الدولة في القاهرة ومن أمن الدولة في أسيوط وفي القوصية، وكل منهم يخبرني بالخبر ويقول لي لكني لم أقل لك.
لم أصدق أيضا حتي كلمني صديقي ناجي الشهابي، وطلب مني أن أتصل بالسيد صفوت الشريف، الذي قال لي:مبروك ....الرئيس يعرفك ويتابعك ويقرأ لك ويقدر وطنيتك، وبعدها أتتني مكالمات عديدة من أساقفة كبار وكهنة يهنأونني بالتعيين.
تقول إنك ستفتح صفحة جديدة ...ماذا تعني بذلك؟
يقول أسعد:أعني أني الآن ملك كل المصريين، وأتمني أن أقوم بدور غير عادي، لقد قال لي أحد الأقباط المقيمين في أمريكا عبر مكالمة هاتفية إنني أمثل الأقباط فقط، فقلت له لا طبعا أنا أمثل المسلمين والمسيحيين معا.
وإذا كان المطلوب هو حل مشاكل المسيحيين - وأنا أعترف بوجود مشاكل للمسيحيين -، فإنني سأسعي إلي أن أفعل ذلك من خلال سياق مجتمعي عام، وبوصفي مواطناً مصرياً ونائباً عن كل المصريين.
وضعنا أمامه قانونين هما الأحوال الشخصية لغير المسلمين وقانون دور العبادة، ومن المفروض أن تتم مناقشتهما في المجلس، فما رأيه فيهما، وما الذي سيفعله؟
قال: ليس بالضرورة طبعا أن تتطابق الأفكار، لأن معني ذلك ألا تكون هناك أفكار خاصة للأفراد، فأنا لست ضد قانون دور العبادة الموحد، لكني أري كسياسي وابن الشارع المصري أن قانون دور العبادة لن يحل المشكلة وحده، فالمسألة ليست قانون والسلام، وهو قانون سوف يشعل الفتنة أكثر، لأنني نعطي الشرعية للقانون دون تمهيد سياسي للقضاء علي الفتنة الطائفية التي تنفجر بسبب مشاكل بناء الكنائس.
أما مشروع الأحوال الشخصية، فأنا كنت أول من تحدث عن الطلاق ولائحة 38، ومنذ نشأة الكنيسة وهناك طلاق، ولم يكن في الخمسة قرون الأولي من عمر الكنيسة سر زواج، لكن هناك إجماعاً استطاعت الكنيسة أن تحدثه طوعا أو كرها لقبول فكرة عدم وجود طلاق ...وأنا أري أنه لابد أن تكون هناك وجهات نظر، وأنا أري أنه لابد أن تنتهي هذه الإشكالية وإلا ترتبت عليها نتائج وخيمة.
إن جمال أسعد في نهاية الأمر تركيبة مختلفة، هو رجل لابد أن يثير الإعجاب، فهو يتحدث بروح مصرية خالصة، وهو ما جلعنا نسأله عما تضامن في تكوينه حتي تخرج لنا هذه التركيبة المتصالحة مع نفسها؟
قال:أنا والدي كان بقالاً من تحت الطبقة الوسطي، استفدت من النظام الناصري، بأن تعلمت وعملت، ولولا هذا النظام ما كنت تعلمت ولا توظفت، والدي لم يكن متعلما، كان يجيد القراءة والكتابة بالكاد، وعندما قامت الثورة انتمي إليها وانتميت إليها من بعده كليا وجزئيا.
لقد رأيت جمال عبد الناصر وهو يأخذ حق المظلومين، ويوزع الأرض علي الفقراء، كنت من شباب الكنيسة، وكان أصدقاء والدي جميعهم مسلمين ما عدا اثنين فقط من المسيحيين، ومازالت علاقتي متصلة بالجميع، ولا أنادي أيا منهم إلا بقولي:يا عم.
كان والدي من قراء الأخبار، يقرأ لعلي ومصطفي أمين، وبدأت أجلس معهم، وكانوا يحكون عن أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش، وكانوا يدخلون السينما في أسيوط، وجاءت حرب 56، وبدأ أصدقاء والدي يتحدثون في السياسة بشكل مذهل، وتعجبت من هؤلاء الناس البسطاء الذين يملكون وعيا كبيرا، ولا أنسي أنه عندما سمعنا أخبار هزيمة يونيو في الراديو صباح 9 يونيه بكي أبي وبكيت معه، ولم أعرف سر بكائه إلا عندما سمعنا عبد الناصر يتنحي في مساء نفس اليوم.
كان لي نشاط مسرحي في الكنيسة، ومن المسرحيات التي قدمناها علي مسرح الكنيسة هاملت وتاجر البندقية لشكسبير، وقمنا بعمل مسرحيات لصالح المجهود الحربي بمبادرة مني، وهذا كان كله داخل جدران الكنيسة، وكان معي أصدقاء كثيرون من المسلمين قبل المسيحيين.
بعد ذلك تركت المسرح وعملت في الثقافة، وكان أقوم بتنظيم ندوة كل يوم أربعاء ويحضرها الأصدقاء من المسلمين قبل المسيحيين، وظلت هذه الندوات تقام حتي العام 1999، وجئت برموز مصر في الثقافة والسياسة والأدب ليتحدثوا، وكنت أعرف أن هذا النشاط الثقافي والفني هو الطريق الوحيد للتوحيد بين المسلمين والأقباط في مصر.
توقف جمال أسعد قليلا.. وكأنه يستدعي تلك الأيام إلي ذهنه، ثم عاد إلي الحديث: لكن عندما تغيرت الأرضية السياسية التي ينتمي إليها الوطن، وعندما بدأ الانتماء يغيب، بدأت الطائفية تطل برأسها البغيضة، ومنذ التسعينيات، والطائفية تحولت من فكرة إلي صدام حقيقي وواقعي.
سألناه: ألهذا يعتبرك البعض مختلفاً؟
قال:أنا لا أنكر أني أمارس دوري السياسي من خلال قناعاتي بأني نائب عن كل المصريين، ومن يعرفني يدرك أن جمال أسعد تجربة جديدة، إنني مسيحي أختلف مع الكنيسة، لكني روحيا ودينيا وطقسيا لا يمكن أن اختلف فيها أو عليها أبدا، وأعتقد أن مساحة الاختلاف في صالح المسيحيين وفي صالح حل المشاكل المصرية.
إن هناك خللاً كبيراً جدا وهو تنازل الدول عن مواطنيها المسيحيين، وهو ما فرض علي الكنيسة أن تتدخل، وتراكم هذا خطوة خطوة إلي أن وصلنا إلي المرحلة الني نراها أمامنا الآن، ولو لم يتم تدارك الأمر فإن المستقبل لا يبشر بخير علي الإطلاق.
لقد ظل المسيحيون تابعين للكنيسة طوال التاريخ، حتي جاء محمد علي وبدأت تتكون بذور الدولة المدنية، وهناك خطوات كثيرة رسخت تبعية المسيحيين للدولة وليس للكنيسة، منها الخط الهمايوني وإسقاط الجزية وإلحاق المسيحيين بالجيش وما حدث في ثورة 1919 رغم ملاحظاتي الكثيرة عليها.
كل ذلك يدعم فكرة المواطنة، ولذلك ومن هنا فإنني أدعو البابا شنودة وهو أقدر علي ذلك أن يعيد الكنيسة المصرية مكانا للفكر والثقافة والحضارة وأن تصبح مكانا وطنيا، ولقداسة البابا من المواقف الوطنية والتاريخية التي لا ينكرها أحد عليه، وهو وحده الذي يستطيع أن يجعل من الكنيسة مركزا للإثراء الفكري الوطني المصري.
ليس من السهل أن يوضح أحد موقفه في مصر، فإذا وقعت لك مشكلة أو كنت معارضا أو ناقدا لأحد، وحاولت أن تشرح وجهة نظرك فمن المستحيل أن يسمعك الآخرون، إنهم يتحدثون بما يرونه صحيحاً، أما أنت فلتذهب إلي الجحيم.
شيء من هذا حدث مع المعارض المصري جمال أسعد، الذي تم تعيينه في مجلس الشعب، فإذا بنيران جهنم تفتح عليه من كل باب، قالوا إنه خصم وعدو للبابا شنودة، وقالوا إنه يعمل ضد مصالح الأقباط، وقالوا إنه يخدم أهداف ومصالح الجماعات الإسلامية وعلي رأسها الإخوان المسلمون.
- أرسلت للبابا رسالة قلت له فيها:أنا ابنك وأنت أبي الروحي.. ومستعد أن أعتذر عما يمكن أن يفهمه البابا إساءة في حقه.جاء إلينا ليوضح موقفه ويجدد مبادرة الصلح
جمال أسعد: لست خصما للبابا.. لكني سياسي لي وجهات نظري الخاصة
- لم أخطئ في حق البابا أبداً...وهناك ممن يحيطون به يهمهم ألا أقترب من الكنيسة لأسباب شخصية يعرفونها جيداً
نشرت مذكراته الأسبوع الماضي لنفهم سر خلافه مع البابا، وعلي هامش ما خلفه النشر من آثار وردود فعل، جاءنا جمال أسعد ليتحدث، ويوضح موقفه من البابا شنودة ...ويجدد مبادرة الصلح معه، بل يبدي استعداده للاعتذار للبابا، إذا كان لديه أي شعور بأنه أساء إليه وهو ما لا يمكن أن يحدث أبدا.
يقول جمال أسعد:"أنا لست في عداء مع البابا، وعلاقتي به كانت جيدة جدا قبل عشرين عاما، وهو يعرف إخلاصي للكنيسة والوطن، لكن يبدو أن هناك ممن يحيطون بقداسة البابا لا يريدون أن تكون علاقتي جيدة لا بالبابا ولا بالكنيسة، وذلك كله لأسباب شخصية وأنا أعرفهم جيدا.
ومالا يفهمه هؤلاء أنني لا أتحدث في الدين ولا في العقيدة، أنا في النهاية رجل سياسي، وعندما تتحدث الكنيسة في أمور السياسة أجدني أعبر عن وجهة نظري، أما كون الأقباط يريدون أن أكون لسانهم ومنحازا لفكرهم وتصورهم وألغي نفسي تماما، فهذا ليس طبيعيا بالمرة.
إنني أعرف أن من يحبون جمال أسعد من المسلمين يفعلون ذلك لأني سياسي متمسك بمسيحيته، وبعد أن تم تعييني في المجلس وجدت أن هناك أعباء كثيرة علي أن أقوم بها بوصفي نائباً عن الشعب كله وليس عن الأقباط فقط..فأنا نائب مصري أولا وأخيرا".
قلنا له: لقد بدأت عهدك في مجلس الشعب بمبادرة صلح مع البابا شنودة، وحمد لك البعض ذلك.
قال:أنا كنت أتحدث مع الدكتور مصطفي الفقي وهو صديقي وعرفت أنه في طريقه إلي البابا، وقلت له أن يحمل رسالة مني إلي قداسته قلت له فيها :"أنا ابنك وأنت أبي الروحي وأنا ابن الكنيسة وإخلاصي لها...وإذا كان هناك من أوصل لك أني أساءت إليك فإنني لا يمكنني أن أفعل ذلك مطلقا.... وأنا من الآن ملك للناس جميعا".
استوقفناه بأن هناك حالة من الغضب القبطي العام لأنك أعلنت أنك نائب عن الجميع وأنك لست نائبا عن الأقباط؟
فرد سريعا بسؤال:وهل عندما عين رئيس الجمهورية السبعة المسيحيين فعل ذلك حتي يكونوا نوابا للمسيحيين؟
ويجيب جمال أسعد:لا طبعا لأن الرئيس يعرف دستوريا أن النائب يمثل الشعب المصري، ولكن لسد ثغرة عدم وجود من يدينون بالمسيحية قام بتعيين الأقباط ...ولكن ليمثلوا الشعب كله، وهناك تصور خاطئ بأن الذين يدينون بالمسيحية يعبرون عن المسيحيين، والذين يدينون بالإسلام يعبرون عن المسلمين، وهو تصور يكرس للطائفية كما في لبنان تماما....فعلي هذا الأساس يمكن أن نجد من يقول إن يوسف بطرس غالي وزير مسيحي فهو يعبر عن المسيحيين.. هو ما ليس صحيحا بالمرة.
عاد أسعد مرة أخري إلي علاقته بالبابا، قال:وفي هذا السياق أحب أن أذكر أنني عندما دخلت مجلس الشعب في المرة الأولي عام 1987 ضمن تحالف (حزب العمل - الإخوان - الأحرار)، كان البابا سعيدا بذلك، لأني دخلت المجلس علي أرضية المواطنة وليس لأني مسيحي، وقال لي إن ما فعلته أمر عظيم جدا، وظلت العلاقة ممتدة بيننا لسنوات طويلة....ولم يؤثر فيها ما كان يقوله بعض أقباط المهجر من أني أدافع عن الإخوان راغبا من وراء كلامه هذا أن يشوه صورتي.
علي ذكر أقباط المهجر سألناه عن دوافع وجهة نظره فيما يقومون به، ولماذا يتصدي لهم بهذا العنف، وهو التصدي الذي يواجهونه بعنف أشد؟
قال:مشكة أقباط المهجر أنهم يعرفون أني أعرف مخططهم جيدا، فهم ليسوا كما يتصور الأقباط يدافعون عن مصالح الأقباط، لكن لهم مشروعاً أكبر من ذلك، إنهم يمهدون للتدخل الأجنبي في مصر سواء من خلال الأمم المتحدة أو من خلال القوي الغربية، ولأجل ذلك فإنهم يركزون علي ثلاثة أشياء.
أولاً: أن يقولوا إن الأقباط في مصر أقلية، ثم بعد ذلك يثبتون أن هذه الأقلية تتعرض للاضطهاد، وفي المرحلة الثالثة يقولون إن هذا الإضطهاد منظم ويتم من خلال رعاية مباشرة من النظام المصري...وأعتقد أن حادث العمرانية الأخير سيكون مهما لهم، لأنه أول حادث تكون فيه مواجهة بين الأقباط والأمن مباشرة.
أنا أعرف مخططهم هذا وأكشفه، وأمثل نقطة ضعف شديدة لهم لأني مسيحي وأقول هذا الكلام، وهو ما يفسد كل ما يقومون به، ولذلك يكون طبيعيا هجومهم علي، لكن ما لا يعرفونه أني أدخل عهدا جيدا، أخدم فيه الناس وأحافظ علي مصر وأخلص للكنيسة.
هناك قضية أخري تتعلق بتعيين جمال أسعد، فهناك من قال إن تعيينه جاء في إطار الصراع بين الدولة والكنيسة، وهو ما رفضه جمال أسعد، فهو سياسي وابن الكنيسة ولا يمكن أن يكون طرفا في صراع من أي نوع.
حكي لنا جمال أسعد كيف صدر قرار تعيينه، قال:"لم يكن في ذهني أبدا تعييني في مجلس الشعب، ولم تكن عندي أي فكرة عن قرار العشرة المعينين، وعرفت بالخبر من اتصال تليفوني تلقيته من كاهن بالقوصية يخبرني فيه بأنه تم تعييني في المجلس.
قلت له لم يحدث وهدأت أعصابه فقد كان منفعلا، لكني وجدت مكالمات عديدة، وقل ت لأحد المتصلين:لازم حد يتصل بي من رئاسة الجمهورية أولا، لكن جاءتني اتصالات من أمن الدولة في القاهرة ومن أمن الدولة في أسيوط وفي القوصية، وكل منهم يخبرني بالخبر ويقول لي لكني لم أقل لك.
لم أصدق أيضا حتي كلمني صديقي ناجي الشهابي، وطلب مني أن أتصل بالسيد صفوت الشريف، الذي قال لي:مبروك ....الرئيس يعرفك ويتابعك ويقرأ لك ويقدر وطنيتك، وبعدها أتتني مكالمات عديدة من أساقفة كبار وكهنة يهنأونني بالتعيين.
تقول إنك ستفتح صفحة جديدة ...ماذا تعني بذلك؟
يقول أسعد:أعني أني الآن ملك كل المصريين، وأتمني أن أقوم بدور غير عادي، لقد قال لي أحد الأقباط المقيمين في أمريكا عبر مكالمة هاتفية إنني أمثل الأقباط فقط، فقلت له لا طبعا أنا أمثل المسلمين والمسيحيين معا.
وإذا كان المطلوب هو حل مشاكل المسيحيين - وأنا أعترف بوجود مشاكل للمسيحيين -، فإنني سأسعي إلي أن أفعل ذلك من خلال سياق مجتمعي عام، وبوصفي مواطناً مصرياً ونائباً عن كل المصريين.
وضعنا أمامه قانونين هما الأحوال الشخصية لغير المسلمين وقانون دور العبادة، ومن المفروض أن تتم مناقشتهما في المجلس، فما رأيه فيهما، وما الذي سيفعله؟
قال: ليس بالضرورة طبعا أن تتطابق الأفكار، لأن معني ذلك ألا تكون هناك أفكار خاصة للأفراد، فأنا لست ضد قانون دور العبادة الموحد، لكني أري كسياسي وابن الشارع المصري أن قانون دور العبادة لن يحل المشكلة وحده، فالمسألة ليست قانون والسلام، وهو قانون سوف يشعل الفتنة أكثر، لأنني نعطي الشرعية للقانون دون تمهيد سياسي للقضاء علي الفتنة الطائفية التي تنفجر بسبب مشاكل بناء الكنائس.
أما مشروع الأحوال الشخصية، فأنا كنت أول من تحدث عن الطلاق ولائحة 38، ومنذ نشأة الكنيسة وهناك طلاق، ولم يكن في الخمسة قرون الأولي من عمر الكنيسة سر زواج، لكن هناك إجماعاً استطاعت الكنيسة أن تحدثه طوعا أو كرها لقبول فكرة عدم وجود طلاق ...وأنا أري أنه لابد أن تكون هناك وجهات نظر، وأنا أري أنه لابد أن تنتهي هذه الإشكالية وإلا ترتبت عليها نتائج وخيمة.
إن جمال أسعد في نهاية الأمر تركيبة مختلفة، هو رجل لابد أن يثير الإعجاب، فهو يتحدث بروح مصرية خالصة، وهو ما جلعنا نسأله عما تضامن في تكوينه حتي تخرج لنا هذه التركيبة المتصالحة مع نفسها؟
قال:أنا والدي كان بقالاً من تحت الطبقة الوسطي، استفدت من النظام الناصري، بأن تعلمت وعملت، ولولا هذا النظام ما كنت تعلمت ولا توظفت، والدي لم يكن متعلما، كان يجيد القراءة والكتابة بالكاد، وعندما قامت الثورة انتمي إليها وانتميت إليها من بعده كليا وجزئيا.
لقد رأيت جمال عبد الناصر وهو يأخذ حق المظلومين، ويوزع الأرض علي الفقراء، كنت من شباب الكنيسة، وكان أصدقاء والدي جميعهم مسلمين ما عدا اثنين فقط من المسيحيين، ومازالت علاقتي متصلة بالجميع، ولا أنادي أيا منهم إلا بقولي:يا عم.
كان والدي من قراء الأخبار، يقرأ لعلي ومصطفي أمين، وبدأت أجلس معهم، وكانوا يحكون عن أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش، وكانوا يدخلون السينما في أسيوط، وجاءت حرب 56، وبدأ أصدقاء والدي يتحدثون في السياسة بشكل مذهل، وتعجبت من هؤلاء الناس البسطاء الذين يملكون وعيا كبيرا، ولا أنسي أنه عندما سمعنا أخبار هزيمة يونيو في الراديو صباح 9 يونيه بكي أبي وبكيت معه، ولم أعرف سر بكائه إلا عندما سمعنا عبد الناصر يتنحي في مساء نفس اليوم.
كان لي نشاط مسرحي في الكنيسة، ومن المسرحيات التي قدمناها علي مسرح الكنيسة هاملت وتاجر البندقية لشكسبير، وقمنا بعمل مسرحيات لصالح المجهود الحربي بمبادرة مني، وهذا كان كله داخل جدران الكنيسة، وكان معي أصدقاء كثيرون من المسلمين قبل المسيحيين.
بعد ذلك تركت المسرح وعملت في الثقافة، وكان أقوم بتنظيم ندوة كل يوم أربعاء ويحضرها الأصدقاء من المسلمين قبل المسيحيين، وظلت هذه الندوات تقام حتي العام 1999، وجئت برموز مصر في الثقافة والسياسة والأدب ليتحدثوا، وكنت أعرف أن هذا النشاط الثقافي والفني هو الطريق الوحيد للتوحيد بين المسلمين والأقباط في مصر.
توقف جمال أسعد قليلا.. وكأنه يستدعي تلك الأيام إلي ذهنه، ثم عاد إلي الحديث: لكن عندما تغيرت الأرضية السياسية التي ينتمي إليها الوطن، وعندما بدأ الانتماء يغيب، بدأت الطائفية تطل برأسها البغيضة، ومنذ التسعينيات، والطائفية تحولت من فكرة إلي صدام حقيقي وواقعي.
سألناه: ألهذا يعتبرك البعض مختلفاً؟
قال:أنا لا أنكر أني أمارس دوري السياسي من خلال قناعاتي بأني نائب عن كل المصريين، ومن يعرفني يدرك أن جمال أسعد تجربة جديدة، إنني مسيحي أختلف مع الكنيسة، لكني روحيا ودينيا وطقسيا لا يمكن أن اختلف فيها أو عليها أبدا، وأعتقد أن مساحة الاختلاف في صالح المسيحيين وفي صالح حل المشاكل المصرية.
إن هناك خللاً كبيراً جدا وهو تنازل الدول عن مواطنيها المسيحيين، وهو ما فرض علي الكنيسة أن تتدخل، وتراكم هذا خطوة خطوة إلي أن وصلنا إلي المرحلة الني نراها أمامنا الآن، ولو لم يتم تدارك الأمر فإن المستقبل لا يبشر بخير علي الإطلاق.
لقد ظل المسيحيون تابعين للكنيسة طوال التاريخ، حتي جاء محمد علي وبدأت تتكون بذور الدولة المدنية، وهناك خطوات كثيرة رسخت تبعية المسيحيين للدولة وليس للكنيسة، منها الخط الهمايوني وإسقاط الجزية وإلحاق المسيحيين بالجيش وما حدث في ثورة 1919 رغم ملاحظاتي الكثيرة عليها.
كل ذلك يدعم فكرة المواطنة، ولذلك ومن هنا فإنني أدعو البابا شنودة وهو أقدر علي ذلك أن يعيد الكنيسة المصرية مكانا للفكر والثقافة والحضارة وأن تصبح مكانا وطنيا، ولقداسة البابا من المواقف الوطنية والتاريخية التي لا ينكرها أحد عليه، وهو وحده الذي يستطيع أن يجعل من الكنيسة مركزا للإثراء الفكري الوطني المصري.